المالينخوليا في الطب العربي 

 


 

الدكتور عبد الناصركعدان*

 

الدكتور عمر زيتون**


 

محتويات البحث:

 

 

 

 

  

  مقدمة                                      

   الأمراض النفسيّة في الطب العربي          

 المالنخوليا                                

ديوقلس والمالنخوليا                      

جالينوس والمالنخوليا                    

بولس والمالنخوليا                      

أريباسوس والمالنخوليا                  

روفس والمالنخوليا                     

سرافيون والمالنخوليا                   

الكسندر والمالنخوليا                    

    علامات المالنخوليا المذكورة في كتاب القانون

العلاج المذكور في كتاب القانون         

العلاج الحديث للمالنخوليا               

خاتمة                                  

المصادر والمراجع                      

 

 

مقدمة:

منذ زمن الإغريق القدامى، وضعت نظريّة المزاج المتمثلة في نماذجها الأربعة: الدموي، البلغمي، الغاضب، السوداوي. وهي الأمزجة المستعملة في الكلام الشعبي الحديث، ونحن نعتقد أن الإغريق أخطؤوا في افتراضهم أن كل شخص يشكل مثالاً لنمط معيّن.

والواقع أن غالبية الناس يجمعون في ذواتهم مظاهر خاصة بنمط أو نمطين، ولقد ظلّت نظرية الإغريق على فترة طويلة من التاريخ، ولم تلقَ الإهمال إلا في بداية هذا العصر، حيث يفضل علماء النفس المحدثون نظرية السمات على نظرية الأمزجة.

فالسمات هي أوصاف لنماذج السلوك الاعتيادي مثل: الاجتماعية والمثابرة والاندفاع.. فمثل هذه الاصطلاحات متداولة في الحديث العام المشترك بين الناس، وهي تشكل جزءاً بسيطاً من الأسماء الدالة على السمات.

 

 

  

الأمراض النفسية في الطب العربي:

وجدت الأمراض المتعلقة بالنفس منذ القديم، وتمّ التحدث عن بعضها، ومن أشهر الأطباء الذين تحدثوا عنها: الرّازي في كتابه الحاوي، وابن سينا في كتابه القانون.

ولقد تحدث ابن سينا في كتابه، عن آفات الذهن والهذيان والرعونة والحمق وعن فساد الذكر والتخيل وعن العشق والمانيا وعن المالنخوليا التي هي موضوع بحثنا الحالي.

فأما آفات الذهن[1] فقد ذكر أن المريض يتخيّل أشياء في اليقظة أو النوم، ثم لا تلبث هذه الأشياء أن تزول عنه وينساها.

وعن الهذيان فقد ذكر أن المريض يختلط عقله ويثقل رأسه، ويتوهّم نفسه طائراً أو دابة أو غير ذلك ويكون إلى سبات أو إلى سهر وذلك حسب مزاجه.

والرعونة والحمق فهي شبيهة الآن بالخرف والصبويّة.

وأما فساد التخيل فيتخيّل المريض ما ليس موجوداً وأموراً لا وجود لها.

والمانيا هي الجنون السبعي، وهي سوداوية تحصل في الدماغ وهي ناتجة عن سوداء محترقة من الصفراء، وهي اضطراب شديد وعبث وتوثُّب وسبعيّة. وذُكر عن داء الكلب أنه نوع من المانيا.

وفي حديثنا عن المالنخوليا سنتحدث عما ذكر عنها في الماضي من قبل ابن سبنا والرّازي، وسنذكر ماذا يقصد بها الآن.

 

المالنخوليا Melancholia:[2]

يقول الشيخ الرئيس في كتابه القانون في تعريف المالنخوليا [3]" إنها تغير الفكر عن المجرى الطبيعي إلى الخوف والفساد لمزاج سوداوي يوحش روح الدماغ ويفزعه ".

ولقد ذكر أن استمرار المالنخوليا يؤدي إلى ما يسمى بالمانيا، وأن سبب المالنخوليا إما من الدماغ نفسه أو من خارج الدماغ.

إذا كان السبب من الدماغ فهو:

أولاً: إما أن يكون سوء مزاج ينقل جوهر الدماغ وروحه إلى الظلمة.

ثانياً: وجود مادة، وهذه المادة:

-         إما أن تكون في العروق صائرة من مكان آخر.

-         أو مستحيلة إلى السواد.

-         أو مشرَّبة في الدماغ.

-         أو مؤذية للدماغ بكيفيتها وجوهرها فتنصبُّ في البطون.

·        إذا كان السبب من خارج الدماغ:

فهو شيء يرتفع إلى الدماغ خلط أو بخار مظلم وهو:

-         إما أن يكون في البدن كله عندما يستولي عليه المزاج السوداوي.

-          أو الطحال عند احتباس السوداء فيه.

-          أو بخار مظلم يرتفع للرأس ويستحيل لجنسٍ سوداوي.

ولقد ذكر الرّازي أن الوسواس السوداوي لا يكون من البلغم البتة، بل يكون من الخلط الأسود الرديئ، الذي معه توثُّب على الناس وحدَّة شديدة.

والوسواس السوداوي ناتج عن:

أن الدم الذي في عروق الدماغ  تغيّر إلى السوداوية، أو أن الدم في سائر البدن كذلك. فالدم الذي  في عروق الدماغ يميل إلى السوداوية و يتولّد من حرارة كثيرة تحرق ذلك الدم وتحيله إلى سوداء، أو أن الدم ينصب للدماغ من جميع أنحاء البدن.

والعلاج هنا أنه إذا كان الدم في الرأس فلا حاجة للفصد، وإذا كان الدم في جميع أنحاء البدن سوداوي فنبدأ بالفصد والإسهال.

والأبيض السمين قلَّ ما يتولَّد فيه، بينما الواسع العروق يتولّد فيه، والبدن الأحمر اللون، وصاحب البدن الأشقر، وذو الأدمة شديدة اللون " الغامقة ".

فهؤلاء ننظر هل احتبس استفراغ دم سوداوي من بواسير أو طمث أو قيء، وهل كانوا يستعملون الأغذية المولِّدة للسوداء كلحوم البقر والمعز والأرانب.

ومن الأغذية التي تولِّد السوداء: قضبان الشجر الذي يكبس بالملح أو مع الخل. والعدس في غاية توليد السوداء، والجبن العتيق، والخبز الغير منقَّى من النخالة إدمانه، والبذور الرديّة والشراب الغليظ الأسود، والإكثار من الرياضة، والحميّات الطويلة، والأغذية المسخَّنة، وكذلك عجز الطِّحال عن جذب السوداء.

والمريض نفصده فنرى هل الدم أسود.. فترسله بقوة، وإن كان أحمراً صافياً نحبسه، ومكان الفصد الأكحل.

ومن الوسواس السوداوي صنفٌ آخر ابتداؤه من المعدة ويسمى المراقي، ويتبع هذه العلة جشاء حامض وبزاق رطب وحرقة دون الشرسوف وقرقرة بعد أن يأكل المريض،  وربّما هاج بهم وجع في البطن لا يسكن حتى يستمري الطعام، وإذا تعبوا تقيّؤوا طعامهم مع بلغم حامض ومرار حاد.

ذكر الرّازي عن ديوقلس[4] أنه قال: أن ما في المساريقا حرارة مجاوزة ، ودمهم أي المرضى قد غلظ، والدليل على أن العلة بهم أن الغذاء لا يصل لأبدانهم. وقد قال قوم أن بهم في ناحية البواب ورم حار، ودليل ذلك أن طعامهم يبقى إلى اليوم الثاني فهو لا ينفذ للأسفل.

وقال جالينوس[5] عن ذلك أن الأعراض القوية لهذه العلة: التفزُّع وخبث النفس. ومعدهم ممتلئة رياحاً، وأنهم يجدون للجثياء و القيء خفاءً ظاهراً.

و ديوقلس لم يذكر كيف يعرض لهم الورم الحار في المعدة، وكذلك أعراض المالنخوليا، ولعلّه عسر عليه ذلك.

ويشرحه الرّازي بقوله: أنه يشبه أن يكون في المعدة شيء من الورم الحار الدموي، والدم المحتقن في ذلك الموضع أشد غلظة وأقرب إلى السوداوية، فيصعد بخار سوداوي إلى الدماغ وتظهر عند ذلك أعراض المالنخوليا، فيعرض لهم من التخيلات أشياء عجيبة حتى أن أحدهم يظنّ أنه قد صار ديكاً أو يخاف من وقوع السماء عليه، وبعضهم يحب الموت، وبعضهم يفزع منه، والخوف لازم لهم في كل حين، والسبب أن بخارات السوداء إذا صعدت إلى الدماغ توحشه كما يوحش الناس من الظلمة، فإذا تغيّر مزاج الدماغ تغيّرت أفعال النفس.

وقال أي جالينوس: متى حدثت هذه الأعراض في المعدة وتبعها أعراض المالنخوليا، فإن العليل يجد الراحة بالقيء والجشاء والبراز وجودة الهضم، وإن حدوث الفزع وخبث النفس عرض تابع، وعندما تكون الأعراض الخاصة بالوسواس السوداوي عظيمة فليست العلة مراقية.

ويعلِّق الرّازي بقوله: أن المراقية لا يكون ما يتبعها من أعراض المالنخوليا عظيماً. فإذا كانت المعدة لا يوجد فيها شيء من هذه الأعراض فالعلة في الدماغ، وننظر حينئذٍ هل يتولد الدم السوداوي في الدماغ أم في البدن كله، وإذا لم يكن ذلك، فمعنى هذا أن هناك علّة حادة تصيب الرأس، إما احتراق في الشمس أو صداع دائم وقد يكون أيضاً عقب السهر الطويل. ويعالج هذا الرّازي بالاستحمام المتواتر، وبالأغذية المولدة للخلط الجيد الرطب، وإذا أزمنت العلة فإنها تحتاج لأشياء أبلغ من ذلك.

ويتابع الرّازي بقوله: أنه يمنع أن يكون السبب في المراقيا ورماً حارّاً أو ثبات الطعام نيّئاً بحاله، وإن الجشاء الحامض والبزاق الرطب الكثير المقدار يعني ذلك أن ليس هناك حمَّى، وليس أعجب من أن يكون هناك ورمٌ حار في مساريقا ولا يتبعه عطشٌ أو قيء، وإن انتفاعهم بالأغذية الباردة وكثرة النفخ ليس مما يلزم الورم الحار، ولكنه الأشبه أن تكون هذه العلّة سببها كثرة ما يبطن في المعدة من السوداء عن الطحال، والدليل على ذلك أنهم كلّهم مطحولون كما ذكر جالينوس.

 فأما العلة المعروفة بالمراقيا، فيكون صاحبها حزيناً آيساً من الخير، وعضو الطحال قد تنصب منه إلى المعدة رطوبة رديّة من جنس الصديد، ويعرض لهم سوء هضم من برد معدهم، ويبقى الغذاء في معدهم بحالة، وجلّهم بكثير الأكل، لأن السوداء تهيّج الشهوة الكلية فتلذع فم المعدة، ويلزمهم النفخ لفساد الهضم ولضعف الحرارة، والأشياء الباردة تصلح من رداءة السوداء لرطوبتها، ولا ينتفع بقلع العلة إذا أزمنت، لأن الخلط الأسود يتولّد من حر الكبد والطحال، فإذا قلّ تولُّد الخلط على امتيازه، قلّ ما يدفعه إلى المعدة، وهو أعظم علاج للمالنخوليا .

ويعلِّق الرّازي بقوله: أن جملة علاج المالنخوليا:

ترطيب البدن، فإنه إذا رطب برأ ولا نلجأ إلى استفراغ الخلط الأسود بالإسهال الدائم والفصد، وترك الأغذية المولِّدة للسوداء.

 وإن تكثير الخلط البلغمي في البدن يبرئ الوسواس السوداوي، وأما المراقيا فنلجأ لتدبير الكبد لئلا يكثر تولّد السوداء فيها، وإذا لم يتهيأ ذلك فنلجأ لإدمان استفراغ الخلط الأسود بالإسهال للسوداء، فيقوى فم المعدة ويحط النفخ، ونعطي الأغذية الحلوة الدسمة.

ويتابع الرّازي عن جالينوس قوله: أن الطحال إذا كانت فيه علل ودفع عن نفسه فضلاً رديّاً، فربما صبه إلى فم المعدة، فأحدث المالنخوليا، وأن الطحال إذا صب إلى فم المعدة فضلاً سوداوياً، أورث كآبة، والوسواس السوداوي ربما هيَّج الشهوة أو لم يهيّجها وأفسد الهضم في الحالين. ويتابع قوله أنه في المالنخوليا يغلب على النفس الهم والفزع واليأس من الخير.

 ويتابع الرّازي أن ما قاله جالينوس يحتاج لعلاج أقوى، فإذا كان يصير إليه هذا الخلط من المعدة، فعلامته أن تخف أعراضه، وإذا أحسَّ استمراء وكثرة جشاء وقراقر وبزاق ووجع بين الكتفين.

وإذا كان جميع دمه سوداوياً نفصده، وغير المراقي لا تكثر أعراضه عقب التخم ولا يخف عقب الاستمراء، ولا دمه إذا فصدته أسوداً، ويكون قد تقدّم ذلك همّ أو سهر وعرض كثير للشمس، ويداوى هذا النوع بالحمام الفاتر وترطيب الرأس بالأغذية الجيدة، وما كان من العروق بالفصد والمراقية بالحقن.

قال جالينوس: "  كان رجل يجري منه دم بواسير فاحتبس فحدث وسواس سوداوي، فاستفرغه أخلاطاً سوداء فبرأ، ثم كنت أسفرغه إذا شعر بالعلة، فيسكن عنه ما بدأ من الوسواس ويستفيد بالإسهال لاستفراغ الخلط الأسود، وكان الدواء يفتح بواسيره فيجري الدم الردي "[6].

ويعلق الرّازي بقوله: " يجب أن يشرب الشراب باعتدال عند المالنخوليا، ولا علاج أبلغ في رفع المالنخوليا من الأشغال الاضطرارية التي فيها منافع عظيمة، تملأ النفس وتشغلها جداً، والأسفار والنقلة. وإن الفراغ أعظم شيء في توليده، وإن الصيد وشرب الشراب والغناء والمباراة تجعل النفس في شغل عن الأفكار العميقة، وقد برأ أكثر من واحد بهدمٍ قد وقع، أو سرقة حدثت، أو خوف من سلطان. وهذا يدل على أن النفس إذا عرض لها بغتة أمر اضطراري شغلها عن العناية والفكر بغيره. والمالنخوليا قد يكون والأخلاط جيدة، ولا يحتاج إلى دواء ويكون ذلك من فكره في شيء ما يدفع[7] وعلاج هذا النوع يكون بحلِّ ذلك الفكر. فإنه كان رجل شكا إلي وسألني  أن أعالجه من مرّة زعم أنها سوداوية، فسألته ما يجد فقال أفكر في الله تعالى من أين جاء وكيف ولد الأشياء، فأخبرته أن هذا فكر يعمّ العقلاء أجمع، فبرئ من ساعته، وكان قد اتهم عقله، حتى أنه كاد يقصّر فيما  يسعى فيه من مصالحه. وغيره أيضاً قد عالجته بحل فكره"[8].

عن جالينوس قال: " أصحاب المراقيا يشتهون الجماع شهوة دائمة ويعرض لهم إذا استعملوه انتفاخ في البطن وتكثر شهوتهم للجماع، لأن الرياح تكثر فيهم فيما دون الشراسيف والجماع يخفف عنهم ذلك، وأصحاب المالنخوليا لا يملّون أن يفزعوا من شيء ما  لأن هذه العلة ( الفزع من شيء ما ) إذا كانت خفيفة خفيّة فزعوا من شيء واحد أو اثنين أو ثلاثة، وإذا كانت ظاهرة فزعوا من أشياء كثيرة.

وذكر جالينوس أن الجماع يضرُّ لصاحب الوسواس السوداوي و أن أصحاب الوسواس السوداوي قد يتقيّؤن خلطاً أسوداً وربما خفَّ مرضهم أو لم يخفّ.

وقد ذكر الطبري[9] أن الوسواس يكون من الحر واليبس، وقد صدق فإن المالنخوليا ليس بوسواس بل إنما هو تفزّع وظنون كاذبة.

ويذكر جالينوس أن أصحاب المالنخوليا ينتفعون بالطعام البارد ويستريحون إليه، وإن طال المقام بأصحاب المالنخوليا في غمّ ووحشة، اختلطت عقولهم. فإذا رأيت المالنخوليا من غير هذه الأعراض فليست مراقيا، فعالج الكائن من الدم في البدن بفصد الأكحل ثم بإسهال السوداء ثم بالأغذية الجيدة الخلط، وما كان في الرأس فالعلاج بالسعوط[10] والأطلية  اللطيفة الحارة.

ويعلّق الرّازي بقوله أن المراقيا تعالج بالأغذية اللطيفة، وجودة الهضم والحمّام والسرور والفرح وسقايتهم ( للمرضى ) شراب لذيذ طيّب، وعند فصدهم ولم نرَ  الدم أسوداً نقطع ذلك، وعندما يكون أسوداً نستكثر من إخراجه، وأصحاب المراقيا نسهلم إن كانت معدهم قوية. ونعالج الرأس بما يقوي الرأس لئلا يقبل ما يصعد إليه من بخار البطن ونسقه سكنجبين[11] فهو ينقِّي المعدة، ويحقن بالحقنة اللّينة ويسعط بالطيب ليقوى رأسه.

ويعلّق الرّازي بقوله أن تقوية الدماغ واجب لكن : إسخانه لا يجب.

ويذكر جالينوس قوله أنّ  نبض العرق العظيم المستبطن بعظم الصلب يظهر في الموسوسين عند الهزال المفرط.

بـولـس[12]:

 المالنخوليا إما لغلبة السوداء على الدماغ وحده، وإما أن البدن كله سوداوي. أو لأن البطن ورَمه حار طال احتباسه، فتصعد منه بخارات سوداوية وتسمى هذه العلة المراقيا، ويعمّها كلها الخوف والغم وخبث النفس والأفكار الرديّة وربما كان معه ضحك. وقد يحدث فساد الهضم وجشاء حامض وثقل في البطن وحرقة وانجذاب المراق إلى الأعلى، وتخف هذه الأعراض بجودة الهضم وخروج الرياح والجشاء، فإذا لم يظهر هذا ولا كان البدن سوداوياً، فالعلة في الدماغ.

و العلاج هو الإكثار من الحمام، والخلط الجيد المرطب وما يطيّب النفس، ولا يحتاج إلى علاج آخر غير الترطيب إذا لم يكن مزمناً. فإذا كان مزمناً أسهل عدة مرات ويتجرّع عند النوم شيئاً من الخل ويصطبغ به.

ويذكر الرّازي أنه إذا كان دم البدن كله أسوداً نفصده أولاً ثم نريحه ثم نسهله بالخربق الأسود[13] ونفتح أفواه البواسير وإدرار البول، وإذا كان الوجع في الشراسيف تكمَّد تلك المواضع بمزيج النباتات؛ كالفوتنج[14] والأفنستيّن [15]مثلاً. فهذه تسكّن الوجع وتحط النفخ وتترك هذه الأخمدة زماناً طويلاً على هذه المواضع،وإذا كان هناك وجع وورم حار فنستعمل الشرط أيضاً. وإن طالت العلة نستعمل القيء بالخربق ( إذاً فالتدبير هو توليد ما يسمّى بالخلط الرطب).

ويذكر الرّازي عن جالينوس قوله أن يسهل الوقوع في الوساوس السوداوية لمن كان حار القلب، رطب الدماغ . فبسبب حرارة القلب يكثر تولّد السوداء .. والمستعدون للمالنخوليا أصحاب اللثغة والحدّة وخفة اللسان وكثرة الطرب واللون المفرط الحمرة وكثرة الشعر خاصةً في الصدر، وسعة العروق وغلظ الشفتين.

أريـبـاسـوس[16]:

يذكر أن علاج الشراسيفي بالقيء والإسهال والجشاء والهضم الجيد وإذا كان التفزع وخبث النفس قوي فلم يتبين في البطن فساد، فالعلة في الدماغ، والعلاج هنا بإدمان الحمّام والأغذية المرطبة.

روفـس[17]:

يذكر أن المالنخوليا يجب أن يدارَك في ابتداءه، وإلا عسُرَ علاجه. وعلامة ابتدائه أن يعرض للإنسان خوف وفزع وظنٌّ رديء. ويكون سائر أسبابه لا علة بها. مثل أوهامهم أن منهم يخاف الرعد أو يولع بذكر الموت أو يبغض طعاماً أو شراباً أو نوعاً من الحيوان ويتوهم أنه قد ابتلع حيّة فيدوم فيهم بعض هذه الأعراض مدة ثم تقوى  وتظهر أعراض المالنخوليا كاملة وتشتد على أيام، فإذا رأيت ذلك فبادر بالعلاج.

وقال: إذا عرضت في أبدان أصحاب المالنخوليا قروح، دلّ ذلك على موت قريب. وهي قروح تظهر في الجبين والصدر وفيها حرارة مؤلمة جداً. ويعرض المالنخوليا للرجال أكثر من النساء، ولا يعرض للصبيان. وقد يعرض للغلمان والأحداث، أما الكهول والمشايخ فإن المالنخوليا يكاد يكون عرضاً لازماً لهم لأن المشايخ بالطبع ضيّقوا الصدر، قليلوا الفرح، سيئة أخلاقهم، نفخهم في البطن كثير. وأبعد الأزمنة من المالنخوليا الشتاء، ثم الصيف لأنه يطلق البطن ويذيب الفضول. فأما من لم يطلق بطنه فإنه يصبح عليه هيجان عظيم، والموقعة في المالنخوليا الإكثار من الشراب وترك الرياضة.

ويعلّق الرّازي بقوله: أن هذا النوع المذكور سابقاً يوقع في النوع الشراسيفي، وأما هذا التدبير فنافع للمالنخوليا، لأن المالنخوليا هو يبَس ويصلحه الإكثار من الدم الجيد الرطب.

قال ( روفس ): وقد يوقع في المالنخوليا شدة الفكر والهم، وقد يعرض لبعض هؤلاء أن يولعوا بالأحلام وبالإخبار عما يكون فيصيبون فيه، وإذا عرض المالنخوليا ربما خفى ابتداؤه إلا على المهرة من الأطباء، لأن الطبيب الحاذق قد يميز خبث النفس والغم العارض عن سبب آخر مما يعرض للناس.

وذكر من العلامات الدالة على ابتداء المالنخوليا: حبُّ التفرّد والتخلي من الناس، كما يعرض للأصحاء لحبهم البحث والستر للأمر الذي يجب ستره، لذا يجب المبادرة بالعلاج لأنه في ابتدائه أسهل ويعسر عند الاستحكام. وأدل ما يستدلّ به على وقوع الناس في المالنخوليا: أن يسرع الغضب والحزن وحب التفرّد ولا يفتح عينيه جيّدا كأنه به خفش، وتكون شفاههم غليظة وصدورهم غليظة وما دون ذلك من البطن ضامر، وحركتهم قوية سريعة لا يقدرون على التمهّل، وألسنتهم سريعة الحركة بالكلام ولا يظهر فيهم إسهال أسود أو قيء بل الأكثر الظاهر هو البلغم. فإن ظهر في الاستفراغ شيء أسود دلّ ذلك على كثرته في أبدانهم، وخفّ منهم المرض بخروج البلغم أكثر مما يخف بخروج الخلط الأسود، وخروج ذلك بالقيء أو البراز أو البول أو سيلان البواسير، وتعرض لهم الدوالي بكثرة، والذين لا يظهر الخلط الأسود أعسر علاجاً وإن كان خروج البلغم يخفّ عنهم.

يعلّق الرّازي بقوله:

تهيج المالنخوليا في الربيع وفي أصحاب الدماء السوداء، لأن الربيع يثير الأخلاط ويغلي الدم كما يغلي ماء العيون.

قال ( روفس ): أن للدم أوقات يتكدّر فيها شوايب كما يغلي العيون في أوقات معلومة يكدر فيها ماؤها ويرمي بما أسفلها إلى فوق، ومن دلائل هذا المرض كثرة الاحتلام والدوار ودويّ الأذن وثقل الرأس، وهذه تكون بسبب الريح المنثور الذي في السوداء، وشهوة للجماع تدل على أن في السوداء ريحاً كثيرة. وأصحاب الطبايع الفاضلة مستعدون للمالنخوليا، لأن هذه الطبايع سريعة الحركة كثيرة الفكر، والذين بهم المالنخوليا يحسن حالهم ويخف بإطلاق البطن والجشاء والقيء.

ويتابع الرّازي قوله أن هذا يحدث في الشراسيفي لا في غيرها، ولم يذكر روفس إلا هذا الضرب. وإني لأعجب من جالينوس كيف لم يقل أن روفس لم يذكر شيئاً ولا علاجاً إلا لضربٍ واحد.

والعلاج: يكون بالإسهال بالأفتيمون والصبر فهما ينفعان المعدة ويحتاجون لذلك لأنهم سيئوا الهضم، وليرتاحوا قليلاً وليأكلوا الأغذية الحميدة، والمشي مفيد، ومن كان هضمه رديئاً فليستعمل الحمام، وليكن الغذاء سريع الهضم بعيداً من توليد النفخ ومليّن للبطن، ويسقوا شراباً أبيضاً باعتدال وليتجرّعوا الخلّ عند النوم. وإن أمكن فليفصدوا ونستعمل التليين للبطن في كل يوم ليدوم لهم ذلك، والأفسنتين والفوتنج وماء الجبن لهم نافعة، وقد برأ خلقٌ كثير بإدامتهم ذلك، ومن هو ضعيف المعدة فالقيء له أفضل، ونعطي الأغذية المليّنة كلحم الدجاج والسمك الصغار، وإذا سمنوا انتقلوا من أخلاقهم الرديةوبرئوا، ومن كان فيهم يحتمل شرب الخمر فلا يحتاج إلى علاج سواه، وتنفعهم الأسفار البعيدة فإنها تبدّل مزاجهم وتجيد هضمهم، وظهور البهق علامة قوية على الصلاح في الصدر والبطن والظهر.

وإسخان الشراسيف بالتكميد الدائم يجيد الهضم ويُذهب النفخ، ونطلهم بالمياه المحللة للرياح، فهذا يحلل النفخ ويعين على الهضم، ودهن البطن بدهن السوسن والتقوية بالطيب ووضع ضماد الخردل على البطن عظيم النفع لاستئصال الوجع، ولا نوهم العليل أن به المالنخوليا ولكن نعالجه من سوء الهضم ونلهه ونفرحه ونشغله عن التفكير.

سـرافـيـون[18]:

يذكر أن المالنخوليا وسواس بلا حمى وهي ثلاثة أصناف:

أ إما أن يكون في الدماغ نفسه خلط أسود.

ب أو الدم في البدن كله أسود.

ج المراقي وهو الذي يحدث فلغموني[19] في الكبد فيصير الدم سوداوياً، ويرتفع منه بخار سوداوي إلى الرأس، واللازم لهذه العلة الخوف والغم والإكثار من النظر إلى الأرض، وتسودّ شعورهم ولو كانوا  قد شابوا.

ويتابع سرافيون قوله: المراقيا معها جشاء حامض وكثرة بزاق ولهب وقرقرة في البطن وبراز بلغمي وانتفاخ المراق.

والعلاج: نبدأ بفصد الأكحل من الصافن ويجب تجنّب الباذنجان والعدس والجبن العتيق ولحم البقر والمالح، ونغذي بالرطب.

ويعلق الرّازي بقوله: أن ماء الحبوب تريحهم وتحن تدبيرهم، وعند المحرورين نسقهم ماء الجبن والأفتيمون[20]، وإن استفرغت السوداء نأخذ الأدوية التي تنفع القلب، ويمكن أن نعطي السفوفات التي تعطى للخفقان الحار، وإن حدث سهر نلجأ لترطيب الرأس ونكرر ذلك عدة مرات.

ويتابع الرّازي أن جملة علاج المالنخوليا غير المراقية هي الفصد والإسهال المتواتر للسوداء، وتبريد الكبد وتقوية الطحال للجذب، ونفتح أفواه البواسير ولزوم الحمام والشراب والنوم، والذي في الدماغ نلجأ للشراب الكثير والماء العذب وترطيب الرأس، أما المراقية نلجأ للقيء والتدبير المقلل للسوداء توليداً أو استفراغاً.

الاسـكـندر[21]:

من مقالته في المالنخوليا أسرع بعلاجها فإنه إن طال  يسبب للدماغ سوء مزاج لا يبرؤ، ومتى احتجت أن تسهِّلهم فافعل ذلك وإن اكتفوا بما أسهلت، وإلا فأرحهم أياماً وألزمهم الغذاء الرطب والحمام الفاتر والسكون، ثم عاود الإسهال بأقوى من الأول وإن كانت أمارات الحرارة و الاحتراقات.

ويعلّق الرّازي بقوله: إن ثلث هذا يجزي وإياك أن تسهِّلهم بالإيارجات[22] الكبار فإنها تؤذيهم وتؤدي إلى غاية الجنون وتحرق دمائهم وتمزجها لليبس، وأحمد الوجوه في إسهال هؤلاء بما لا يسخن، ثم نفصد عقب الإسهال.

والغذاء المرطب، فإني قد أبرأت خلقاً منهم بالتدبير المرطب، وأبلغ الأغذية في ذلك السمك الصخري والدجاج والخس والهندبأ والخيار والعنب. وأما التين فلا يأكلونه ويدع الحلوى كله، ويشربون خمراً مائياً، والحمام العذب بالغ النفع لهم لأنه يعدّل بعض أخلاقهم ولا ينصبّ على الرأس ماء حار جداً بل فاتر، ويمرخ البدن بعد الحمام بالبنفسج ودهن الورد، وإن خرج من الحمام عطشاناً فاسقه ماءً قليلاً، ولمن كانت به ظنون ردية نزيلها بالكلام والحيَل، إذا لم تكن أمارات حرارة كثيرة وكانت السوداء ظاهرة نسهّله بالأفتيمون مع ماء الجبن بالصيف، وفي الشتاء ماء العسل، ومن الأفتيمون مع أيارج، ثم نرحه أياماً ونعِد عليه الإسهال فإنه يكفي، وإلا فاسقه أيارج جالينوس فهو يسهل السوداء، وإذا لم تنجع هذه فليس إلا الخربق[23] والحجر الأرمني[24] والحجر الأرمني إن غُسل أسهل وإن لم يُغسل قيّأ وقد يخُلط به أيارج -.

ويقول الاسكندر: كثيراً من هؤلاء يعرض لهم من الإسهال تشنّج أكثر مما يعرض لسائر الناس لغلبة اليبس عليهم، فإن حدث لهم شيء من ذلك نقعدهم بالماء الفاتر ونسقهم منه، ونعطهم خبزاً منقوعاً ونسقهم ربّ الحصرم ممزوج بالماء الفاتر وهذا ينفعهم ثم يناموا، ثم يُدخلوا الحمام اللّين، وقهم الخردل والثوم والملح والعدَس ولحوم البقر والأسود من الشراب، ومرهم بالحمام والأغذية المرطبة والأسفار والتنقل والإكثار من الإخوان والشراب والعسل والشغل بالطرب حتى يبرأ إنشاء الله.

و الرّازي يقول: " لم أرَ شيئاً أشرّ في هذه العلة من الوحدة، ولذلك أرى أن الذين يجلسون وحدهم يسوؤون، ولا ينبغي أن يجلسوا مع أمثالهم بل يكون عندهم ناس عقلاء يكلّمونهم بالصواب ويعرّفونهم مواضع الخطأ من كلامهم.

ومما ذكره الشيخ الرئيس في كتابه قوله: " إنه قد رأى بعض الأطباء في القديم أن المالنخوليا قد يقع عن الجن، وذلك بأن يميل المزاج إلى السوداء. ومن الأسباب القوية في توليد المالنخوليا:

( إفراط الغم أو الخوف والسوداء الفاعلة للمالنخوليا هي سوداء طبيعية، فالبلغم أو الدم إذا استحال كل منهما أو واحد منهما إلى سوداء فعل مالنخوليا، أما الخلط الصفراوي إذا استحال فعل مانيا ) ".

ومما قال في كتابه أيضاً أن أسلم المالنخوليا ما كان معه فرح، ويمكن أن ينحل المالنخوليا في البواسير والدوالي[25]، وتقل المالنخوليا في البيض السمان ويكثر تولّدها في الدماغ الرطب والقلب الحار جداً.

ومن المستعدّين للمالنخوليا ( اللُثَّع، الخفاف الألسنة ، السود الشعور، الغلاظ الشفاه، الرجال أكثر من النساء، الكهول والشيوخ أكثر. وتقل المالنخوليا في الشتاء، وتكثر في الخريف والصيف، وتصبح أكثرها هيجاناً في الربيع؛ لأن الربيع يثير الأخلاط في الدم ).

والمالنخوليا تصيب الشخص بسرعة إذا أصابه هم أو خوف أو غم، وعند النظر إلى علماء النفس في الوقت الحاضر فلقد عرَّفوها : "[26] بأنها شكلٌ من أشكال الاكتئاب الشديدة Depression  فيمكن أن يكون الاكتئاب بأعراضٍ سوداوية Melancholia أو يكون الاكتئاب مع ذُهان وهو يسمى " Mania  ".

 ويمكن أن تكون الأعراض بشكل نوبات اكتئابية سوداوية متناوبة مع نوبات هوسية، ويعني هذا اضطراب وحيد القطب، وعندما تكون الأعراض اكتئابية سوداوية مع هوسية وبنفس الوقت، يسمى هذا باضطراب ثنائي القطب.

والنوبات ثنائية القطب أو الاضطراب الثنائي القطب يظهر بسنٍّ مبكرة لكن نسبته قليلة، أما الاضطراب الوحيد القطب يظهر بسن متأخرة ويكون بنسبة أكبر.

علامات المالنخوليا المذكورة في كتاب ابن سينا:

ظنٌّ رديء وخوفٌ بلا سبب، وسرعة غضب، اختلاجٌ ودوار، ويتطوَّر إلى ظنٍّ سيء مع غمٍّ ووحشة وكرب وهذيانٍ بالكلام.

وتظهر أصناف من الخوف، وأكثر الخوف مما لا يُخاف منه عادةً، كالخوف من سقوط السماء عليه، أو ابتلاع الأرض إياه. وهذه الأعراض للمالنخوليا قديماً تتشابه مع ما يصفه الأطباء اليوم باضطراب التجسيدSomatic Disorder   [27] واضطراب المراقيا Hypochondria.

ومن الأعراض المذكورة في كتاب القانون: أن المريض يتخيَّل نفسه أنه صار ملكاً أو شيطاناً أو طائراً، ويمكن أن يضحك وبدون سبب، ويسمى قديماً بالمالنخوليا الدموي وحديثاً بالمانيا أو الهوس، ومنهم من يبكي ويحزن ويحب الموت وهو ما يسمى بالمالنخوليا السوداوي قديماً، وحديثاً بالاكتئاب. ومنهم من يحدث لديه إفراط بالفكرة ودوام الوسواس وسهر وفكر وزيادة حركة مع كثرة شهوة، وهذا ما يتوافق مع الشكل التحت هوسي الآنHypomanic Phase .

وعند الإطلال على مظاهر الاكتئاب التي وصفها الأطباء في كتبهم الآن، يُذكر في وصف الاكتئاب أنه حالة من الحزن طويلة الأمد وتصل للحد الأقصى من الكم والكيف، بالإضافة لوجود اضطرابات جسمية ونفسية تتطور إلى الهموم، مع وهن وتعب وانهيار عام عقلي وجسمي.

 ويكون الاكتئاب مرض قائم بذاته أو ثانوي لبعض الأمراض النفسية والجسمية، وهو يظهر بالأعمار المتوسطة، ويصل للحد الأقصى في الأعمار المتأخرة، فإذاً هو إما مرضٌ قائمٌ بذاته تالي لاضطرابات بيوكيميائية وهرمونية، أو تالي لأسباب أخرى عضوية مرضية، فيظهر عند المريض أن العالم مظلمٌ في حياته مع الشعور بالذنب، وبطئ في التفكير، وضعف في التركيز، وقد يحدث شلل نفسي يدخله بحالة جمود كامل، كما يفقد المريض قوته ونشاطه، وتقل شهيّته ووزنه، وتشيع عنده اللامبالاة، وفقدان الاهتمام أو عدم القدرة على اتخاذ القرار المناسب، ويشيع القلق والأعراض الهستيرية، والتوهّم بالمرض  Hypochondriasis ويبتعد المريض عن نشاطاته ويعيش في عزلة، وتأتي النوبات التي تستمر من أسابيع إلى شهور.

والشكل الهوسي: أن المريض يكون مفرط المرح لا يتوقف عن الرقص والغناء، ويتصرف بفوقية عن الآخرين ويشعر أنه شخصية ذات مستوى رفيع تملؤه أفكار العظمة.

أما الشكل تحت الهوسي:  يكون المريض بمزاج غير ثابت مع زيادة الفعالية الحركية وفرط التكلم مع فرط الثقة بالنفس و انعدام بعد النظر وضعف المحاكمة العقلية مع أوهام ونوم قليل وشهيَّة مزدادة وشهوة مزدادة.

وقد ذُ كر في كتاب القانون أن الأمراض المؤهّبة للمالنخوليا هي الحميّات المزمنة، ومن الأمراض الجسمية المرافقة للمالنخوليا: قلة الهضم، تخمة، نفخة، فساد الهضم، جشاء حامض، قرقرة، خروج ريح، ألم في المعدة خاصة بعد الطعام، والبراز بلغمي مراري، فهذه إذاً أعراض جسمية مرافقة للمالنخوليا. وإذا كانت المالنخوليا ناتجة عن النوع الدموي، فيغلب على المريض الضحك والفرح، وإن كان من بلغم يغلب عليه الكسل وقلة الحركة، وإن كان من صفراء كان أكثر الأنواع اضطراباً، وإن كان من سوداء صرف كان الفكر فيه كثيراً.

العلاج المذكور في كتاب ابن سينا:

يجب أن يتم العلاج قبل أن يستحكم فهو سهل في البداية، وصعبٌ عند الاستحكام. ويجب أن يفرح صاحب المرض وأن يطرب ويجلس في المواضع المعتدلة، ويرطِّب هواء مسكنه، ويشم الروائح الطيبة، ويتناول الأغذية الفاضلة، كما يُجرى له حمّام وذلك قبل الغداء بماء فاتر، ويتجنّب العرق الشديد والجماع، ويتجنّب في طعامه المالح والشديد الحموضة، كما يتجنّب تناول الأطعمة كالعدس، الكرنب[28]، ويتناول الدسم والحلو. كما أن النوم من أوفق العلاجات للمريض. وقد ذُكر أيضاً استفراغ المادة من معدة المريض والفصد أيضاً، ويجب أن يُشغل صاحب المالنخوليا  بأي شيء كان كالسماع للطرب.

 والضرر له من الفراغ والخلوة، وعندما يخافون أمراً ما فيشتغلون به عن الفكرة، فهو علاجٌ لهم، والنوع الرديء من المالنخوليا عند سقوط الشهوة وعند وجود قروح في الأبدان.

 

أما العلاج الحديث للمالنخوليا:

 فيعتمد التحليل النفسي لكشف السرعات العاطفية واللاشعورية، ويعتمد توجيه الانحرافات المعرفية، والأخطاء الاعتيادية في التفكير والإدراك، وإن الشخص المكتئب لا يحتاج لنصائح، بقدر حاجته لمن يصغي إليه باحترام.

أما العلاج الدوائي:

 فيعتمد على الأمفيتامينات ومضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات، ومثبّطات الأمينواوكسيداز، والمهدّئات، ومضادات القلق، والفينوثيازينات. وممكن الدخول للمشفى واللجوء للتنبيه الكهربي.

 

 

 

 

 

خاتمة:

من خلال ما تم ذكره نجد أن المالنخوليا هو مرض قديم قد مرّ ذكره والتّحدّث عنه عبر العصور، وفي هذا العصر نجد أنه في وقتنا الحالي قد ارتفعت نسبة الأمراض النفسية، وذلك ربما يعود لتعقّد ظروف الحياة واختلافها عن الماضي. فنجد أن المالنخوليا " الاكتئاب " هو أكثر الأمراض النفسية وجوداً وانتشاراً، ونحن بحاجة لأطباء أكثر وأكبر ممّن لديهم الحكمة في تطبيق العلاج الحديث أكثر والاعتماد عليه وخاصةً الدوائي والأخذ ببعض النصائح التي وردت على ألسنة الأطباء في الطب العربي. فنحن بحاجة إذاً لأطباء حكماء يقدّمون العلاج الدوائي والنفسي للمرضى.

 وهناك لفتة صغيرة للآباء والأمّهات من أجل توعيتهم التّوعية اللازمة لتقديم وتأمين ما يسمّى بالصحّة النفسية لأولادهم منذ نشأتهم، والعمل على حلّ المشكلات التي تعاني منها الأسرة حتى يتم الحفاظ على صحة أولادهم النفسية من أجل بناء مجتمع تعمّه القوة والصحّة، وليس فيه خلل، ويكون قويّاً بما تحمله هذه الكلمة من معنى القوة النفسية والبدنية والعقلية.

 

 

 

 

 

 

المصادر والمراجع 

 

 

 

 

* الحاوي في الطب، أبو بكر الرَّازي، الجزء الأول.

 

* القانون في الطب، ابن سينا، طبعة جديدة عن طبعة بولاق، دار صادر، بيروت.

 

* عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن أبي أُصيبعة،  منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.

 

* الطب النفسي والحياة، د. حسَّان المالح، 1995،  الطبعةالأولى، دار الإشراقات، دِمَشق.

 

* الطب النفسي، د. معلاّ شيخو، 1985، الطبعة الثانية،   مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية.

 

* المبادئ الأساسية في الطب النفسي، ترجمة مجموعة من الأطباء بإشراف د. إياد الشَّطِّي، 1992، الطبعة العاشرة.

 

 

 

 

▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓

 

 

▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓▓


 

* أستاذ ورئيس قسم تاريخ الطب -  معهد التراث العلمي العربي – جامعة حلب. دكتوراه في تاريخ الطب العربي الإسلامي – طبيب اختصاصي في جراحة العظام.

هاتف 300030 94 963 ، بريد إلكتروني: a.kaadan@scs-net.org

** دكتور في الطب البشري - طالب دبلوم في معهد التراث العلمي العربي – جامعة حلب.

[1]  ( كتاب القانون -  ابن سينا - الجزء الثاني، صفحة: 59 63 ).

[2]  المالنخوليا، ولفظها بالأجنبية Melancholia  ، في كتاب الطب النفسي والحياة لـ حسّان المالح.

[3]  ذكر ذلك في ( كتاب القانون -  ابن سينا -  الجزء الثاني، ص65 ).

[4]  ديوقلس:  طبيب يوناني من نسل أسقليبيوس ( أقدم طبيب يونان )، ورد ذلك في  كتاب عيون الأنباء - ابن أبي أصيبعة.

[5] جالينوس:  طبيب يوناني ولد بعد زمن المسيح بـ 59 سنة، أرَّخه  اسحاق، و بينه وبين أبقراط 665 سنة ذكر ذلك في كتاب عيون الأنباء ابن أبي أصيبعة - ص110 -.

[6]  الحاوي، أبو بكر الرَّازي، الجزء الأول ص67.

[7]  لعلّه يقع.

[8]  الحاوي، أبو بكر الرَّازي، الجزء الأول ص67.

[9]  الطَّبري: اسمه ابن رُبَّن الطَّبري، وهو معلِّم الرّازي صناعة الطِّب، ومن كتبه: فِردوس الحكمة، ( عيون الأنباء - ابن أبي أصيبعة - ص414 ).

[10]  السعوط: يشبه المرهم، وهو مركب من عدَّة مواد ،كان يُستخدم قديماً في علاج عدّة أمراض ( من كتاب القانون ابن سينا - الجزء الثالث ص413 ).

[11]  السكنجبين: هو سائل (( سكّر مع خلّ مع درجة غليان، نحصل على ما يسمى سكنجبين )) - ( من كتاب القانون ابن سينا -الجزء الثالث ص27 ).

[12]  بولس: ابن أخت جالينوس، واسمه شادل، وسماه المسيح بولس بعد أن دعاه إلى الإيمان به، ويعدّ بمصافّ الرسل - ( عيون الأنباء - ابن أبي أصيبعة  - ص110 ).

[13]  الخربق الأسود: نبات له ورق أخضر وفيه خشونة، له ساق قصيرة وزهر أبيض، ينبت في الكهوف والتِّلال، له عروق دقاق سود مخرجها من أصلٍ واحد، كأنه رأس بصلة - ( القانون ابن سينا - الجزء الأول ص45 ).

[14]  الفوتنج: نبات شبيه بالزوفا و له نوعان: جبلي ونهري، وهو ملطِّف قوي ومدرّ للعرق -  (القانون ابن سينا - الجزء الأول ص409 ).

[15]  أفسنتين: حشيشة فيها حرارة وقبض، وهو من أصناف الشِّيح، وله استخدامات عدّة - (القانون ابن سينا - الجزء الأول ص244 ).

[16]  أريباسوس: من أطباء اليونان القديمين، وله كنَّاش كبير في الطِّب. ( عيون الأنباء ابن أبي أصيبعة - ص20 ).

[17]  روفس: من أطباء اليونان القديمين، من زمن أبقراط، ( عيون الأنباء -  ابن أبي أصيبعة -  ص40 ).

 

[18] سرافيون:  هو طبيب يوناني ربّما من زمن أبقراط أو بعده.

[19]  فلغموني:  وتعني خرَّاج.

[20]  الأفتيمون:  بذور وزهر وقضبان صغار متهشِّمة، وهو حاد الطَّعم، أحمر البذر قوة نباته كقوة الحاشا. (القانون - ابن سينا الجزء الأول ص251 ).

[21]  الاسكندر: رأى جالينوس واجتمع معه، وكان فيلسوفاً له مجلس يدرس فيه الحكمة، فسَّر أكثر كتب أرسطوطاليس، وله مقالات كثيرة منها مقالته في المالنخوليا. (  عيون الأنباء ابن أبي أُصيبعة - ص106 ).

[22]  الأيارج: } اسم للمسهل المصلح، وتفسيره الدواء الإلهي، وأول مسهل هو أيارج روفس. (القانون - ابن سينا الجزء الثالث ص340){.

[23]  الخربق: له نوعان أسود وأبيض. الأسود له ورق أخضر فيه خشونة ، وله ساق صغيرة وزهر أبيض، و ينبت في التلال والكهوف، استخدم قديماً لمعالجة الجنون. والأبيض يذكر ديسقوريدس أنه نبات له ورق مثل السلق البرِّي وهو ثخين يضرب للحمرة و ينبت في أماكن جبلية وفي زمن قلع الحنطة. (القانون - ابن سينا الجزء الأول ص456 ).

[24]  الحجر الأرمني: فيه رملية وليِّن المسّ، رديء للمعدة، المغسول منه لا يقيِّئ وغير المغسول يقيِّئ. (القانون - ابن سينا الجزء الأول ص326 ).

[25]  " وكان يعتقد أن مريض المالنخوليا إذا أصابه مرض بواسير أو دوالي فهو سيتحسّن من مرض المالنخوليا ". ( كتاب القانون -  ابن سينا الجزء الثاني ص67 )

[26]  جاء تعريفها في كتاب " الطب النفسي والحياة " لـ د. حسّان المالح.

[27]  كما تمّ ذكره في كتاب المبادئ الأساسية في الطب انفسي الطبعة العاشرة 1992 المترجم تحت إشراف د. إياد الشَّطِّي في دمشق.

[28]  الكرنب: نوع من البقول، منه بستاني ومنه برِّي، والبري أثخن وأيبس من البستاني. ( كتاب القانون -  ابن سينا – الجزء الأول – ص346 ).