دور الأطباء العرب في تطور العلوم الطبية في أوروبا

The Role of Arab Physicians on Medicine Development in Europe
 

Abdul Nasser Kaadan, MD, PhD

الدكتور عبد الناصر كعدان*

 

ملخص البحث

 

مما لا شك فيه أن الحضارة العربية الإسلامية، التي شهدت ازدهارا واضحا إبان فترة القرون الوسطى، قد اضطلعت بدور هام وأساسي في تطور مختلف ميادين العلوم الذي شهدته أوربا في فترة عصر النهضة. ولعل من أهم تلك العلوم هي العلوم الطبية. لقد كان تأثير الأطباء العرب في مجال تطور العلوم الطبية في أوربا واضحا وجليا من خلال أمرين اثنين؛ أولاهما تلك الترجمات التي قام بها الأطباء العرب للكتب الطبية القديمة الإغريقية والهندية والفارسية إلى اللغة العربية والتي بدورها ترجمت ثانية إلى اللغة اللاتينية في بدايات عصر النهضة. ومما لا لبس فيه أن في ذلك حفظ للتراث الهندي والفارسي والإغريقي من الضياع، فأكثر مؤلفات أبقراط وجالينوس في الطب مثلا كان الغرب قد تعرف عليها من خلال الترجمات اللاتينية المنقولة عن العربية. أما التأثير الآخر للأطباء العرب فقد كان من خلال ما أضافوه وما أبدعوه في مجال الطب وذلك من خلال الخبرات العملية التي كانوا قد اكتسبوها نتيجة لممارستهم للطب في البيمارستانات التي كانت منتشرة في كافة أرجاء البلاد الإسلامية. ولعل المستشرقين الأوربيين كانوا هم أول من أدرك أهمية هذا الدور للأطباء العرب؛ فقد لخص الطبيب الفرنسي لوسيان لوكليرك مثلا مكانة الزهراوي في تطور الطب العالمي بقوله: "لقد احتل الزهراوي في معاهد فرنسا مكانة بين أبقراط وجالينوس فأصبح من أركان هذا الثالوث العلمي". بعد ذلك تنبه العرب لهذه الحقيقة، فقاموا بدورهم بكشف النقاب عن الكثير من الحقائق العلمية التي توصل إليها الأطباء العرب، وكانت قد عزيت لغيرهم من الأطباء الغربيين.

   هدف هذا البحث هو التعرض بالذكر لأهم إنجازات الأطباء العرب الأوائل في مجال العلوم الطبية، ومن ثم تبيان مدى ما استفادت أوربا من تلك الإنجازات.

------------------------------------------------------------------------

  
 
أيها السيدات والسادة،،

     إنه لمن دواعي سروري بل ويشرفني أن أشارك في هذه الفعالية العلمية الهامة التي أتت تحت عنوان (تواصل الحضارات) والذي رعته وتقيمه رابطة المغتربين السوريين. فلجميع الإخوة في الرابطة كل الشكر والعرفان بالجميل على ما بذلوه من جهود مضنية في سبيل إنجاح هذا المؤتمر، ولا بد لي هنا أن أشير بشكل خاص إلى جهود الأخ العزيز المهندس فؤاد آغا القلعة رئيس الرابطة.

  

أيها السيدات والسادة،،

   قد يتساءل المرء عن أهمية انعقاد مثل هذا الملتقى العلمي، وعن جدوى بذل مثل هذا الوقت والطاقات المادية والبشرية من أجل العودة إلى دراسة الماضي. وللإجابة ببساطة شديدة على هذا التساؤل لابد لنا أولا أن نشير إلى أن دراسة الماضي يمثل في جوهره التعرف على الذات ومن ثم استشفاف المستقبل. من جهة أخرى، إنه من الملاحظ حاليا أن بعض الدوائر والمؤسسات العلمية في الغرب تشكك بل وحتى تشوه الدور الحضاري الذي اضطلع به العرب والمسلمون الأوائل خلال حقبة القرون الوسطى، وتدّعي بأن العقل العربي وعلى مر العصور لم يتمكن من امتلاك ناصية العلم والمعرفة وتسلم زمام البحث العلمي، وأن تفسير ما حدث في القرون الوسطى، ما هو إلا اجترار لعلوم الأقدمين. لذلك لابد لنا إزاء هذا الزيف من أن نضع الأمور في مكانها الحقيقي، ونبين الدور الحقيقي والهام للعلماء العرب في تطوير العلوم التي ورثوها عن الأقدمين، فدرسوها وأضافوا إليها ثم قدموها للغرب الأوربي، الذي بدوره عمل ولا زال يعمل على تطويرها. ولأثبت مدى ما تمارسه بعض الدوائر العلمية في الغرب من إجحاف في حق ما أنجزه الأطباء العرب، أسوق إليكم المثالين التاليين:

    مما لاشك فيه أن اكتشاف الدورة الدموية الصغرى من قبل الطبيب البريطاني وليام هارفي  William Harvey وذلك عام 1628، كان أحد المحطات الهامة في تاريخ الطب. إلا أن الاكتشاف الأهم بالنسبة لتاريخ الطب عند العرب هو ما تم في بدايات القرن الماضي من إثبات أن ابن النفيس الدمشقي كان قد سبق هارفي في هذا الاكتشاف بنحو خمسة قرون. وبالرغم من أن هذا الرأي قد تم تبنيه من  قبل العديد من الدوائر العلمية المعنية في الغرب وعلى رأسها جامعة أكسفورد البريطانية، إلا أن هناك بعض الجهات العلمية لازالت تتعامى عن إدراك هذه الحقيقة، التي جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، كل ذلك بدافع التعصب المقيت.

    وتعود القصة من جديد إنما بثوب آخر هذه المرة؛ ففي عام 1982 صدر عن إحدى دور النشر البريطانية الطبعة السادسة لكتاب (أبلي Apley) في جراحة العظام والكسور، وهو أحد أشهر الكتب المعروفة في العالم في هذا التخصص. في هذه الطبعة يتحدث الكاتب عما سمّاه بنظرية التجبير المتأخر؛ والتي تعني باختصار وتبسيط شديدين أن هناك أنواعا من الكسور ولأسباب عديدة يجب التريث عدة أيام قبل القيام بتجبيرها النهائي. وقد عزا الكاتب هذه النظرية إلى البروفسور البريطاني جورج بركنز   George Perkins  والذي سمي في هذا الكتاب برائد نظرية التجبير المتأخر. كنت من خلال مطالعتي لبعض الكتب الطبية التراثية التي قام بتأليفها الأطباء العرب الأوائل قد وجدت أن ما يدعى اليوم بنظرية التجبير المتأخر قد تحدّث عنها الطبيب العربي الكبير ابن سينا في كتابه القانون في الطب وقبل البروفسور البريطاني جورج بركنز بحوالي ألف عام. ظلت هذه القضية حبيسة فكري وذلك حتى عام 1996 عندما عقدت الجمعية الدولية لتاريخ الطب مؤتمرها الدولي الخامس والثلاثين في جزيرة كوس اليونانية، وقد تقدمت وقتها إلى المؤتمر ببحث عنوانه طب الكسور عند ابن سينا، وفيه بينت في هذا البحث ومقرونا بالأدلة والبراهين هذا السبق العلمي لابن سينا. وبعد مناقشة طويلة أعقبت إلقاء البحث أقر المجتمعون في المؤتمر تلك الأسبقية لابن سينا.  عند ذلك سارعتُ وطالبتُ رئيس المؤتمر وقتئذ بتوجيه رسالة وباسم المؤتمرين إلى مؤلف هذا الكتاب بحيث يتم تصحيح واستدراك ذلك، واعتبار ابن سينا هو رائد نظرية التجبير المتأخر وليس كما يزعم المؤلف أنه البروفسور البريطاني جورج بركينز. وبالفعل فقد تم إرسال تلك الرسالة وباسم بعض المؤتمرين إلى مؤلف ذلك الكتاب. في الحقيقة لم نتلق أي جواب من المؤلف، وانتظرنا صدور الطبعة الجديدة من الكتاب. وبعد صدور الطبعة الجديدة، تفاجأ الجميع عندما اكتُشف أن صاحبنا المؤلف البريطاني قد أغفل الحديث تماما عن نظرية التجبير المتأخر، وبالتالي فهو لم يأت على ذكر البروفسور جورج بركينز ولا على ذكر ابن سينا. ترى هل أن هذا المؤلف البريطاني فضّل تصحيح واستدراك الأمر على جرعات؟ هل سيكون موضوعيا ويحق الحق ولو على استحياء؟ أم إنه التعصب وعدم الموضوعية، فللننتظر صدور الطبعة القادمة!!

  إلا أنه بالرغم من ذلك، فلابد لنا من أن نشير إلى الكثير من المنصفين من المستشرقين الغربيين الذين درسوا العلوم عند العرب، فأعجبوا واندهشوا بما أنجزه هؤلاء العلماء، بل اعتبروا أن ما تحقق في تلك الفترة كان بمثابة ثورة علمية حقيقية وبكل المقاييس. ولعل من أهم هؤلاء المستشرقين: الألمانية زيكريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب. حيث تقول في معرض حديثها عن مساهمات العرب في تطوير الجراحة: "فهذا الفرع بالذات يدين للعرب بتقدمه وصعوده المفاجئ من مرتبة المهن الحقيرة الدنسة التي تكاد تكون بمنزلة مهنة الجلادين والجزارين إلى القمة التي عرفها على أيدي العرب، فإلى العرب وحدهم يعود فضل رفع هذا الفن العظيم إلى المستوى الذي يستحقه، وإليهم وحدهم يرجع فضل بقاء هذا العلم".

أيها السيدات والسادة:

   لقد كان تأثير الأطباء العرب في مجال تطور العلوم الطبية في أوربا واضحا وجليا من خلال أمرين اثنين؛ أولاهما تلك الترجمات التي قام بها الأطباء العرب للكتب الطبية القديمة الإغريقية والهندية والفارسية إلى اللغة العربية والتي بدورها ترجمت ثانية إلى اللغة اللاتينية في بدايات عصر النهضة. ومما لا لبس فيه أن في ذلك حفظ للتراث الهندي والفارسي والإغريقي من الضياع، فأكثر مؤلفات أبقراط وجالينوس في الطب مثلا كان الغرب قد تعرف عليها من خلال الترجمات اللاتينية المنقولة عن العربية. أما التأثير الآخر للأطباء العرب فقد كان من خلال ما أضافوه وما أبدعوه في مجال الطب وذلك من خلال الخبرات العملية التي كانوا قد اكتسبوها نتيجة لممارستهم للطب في البيمارستانات التي كانت منتشرة في كافة أرجاء البلاد الإسلامية.

   إننا إذا أردنا أن نقف على الدور الحقيقي الذي اضطلع به الأطباء العرب في تطوير علم الطب في أوربا، فإن ذلك يتطلب منا كتابة المجلدات. فضلا عن ذلك، أريد هنا أن أؤكد لكم أن ما نعرفه الآن عن هذا الدور وأهميته هو أقل بكثير مما لا زلنا نجهله؛ فالكثير من التراث الطبي العربي هو لا زال حبيس الكتب والمخطوطات التي لم تر النور بعد، وإن إحدى مهام معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب هو إماطة اللثام عن تلك المعارف، وتسليط الضوء عليها وبعثها من جديد. وهذا هو بالفعل ما نقوم به الآن في معهد التراث ومنذ سنوات خلت.

   لقد ساهم الأطباء العرب في شتى فروع الطب التي كانت معروفة وقتئذ، ابتداء بعلم التشريح وعلم وظائف الأعضاء (الفيزيزلوجيا) وعلم الأجنة وعلم الأمراض وعلم الأدوية (الأقرباذين)، فضلا على الطب الباطني وطب الأطفال وطب العيون والجراحة بمختلف أنواعها وأخيرا علم آداب الطب وسلوك الأطباء.

   على الرغم من أن هذا الموضوع يتطلب الوقت الكثير لإيفائه حقه، إلا أني وعملا بالمقولة العربية: "ما لا يدرك كله لا يترك جلّه أو بعضه" سأحاول في هذا الوقت القصير جدا أن ألقي الضوء على أحد فروع الطب وهو الجراحة عند العرب ومدى تأثر الغرب به، وما ذلك إلا مثال عما تم تحقيقه في كافة فروع الطب.

أيها السيدات والسادة:

    حين نتحدث عن الجراحة عند العرب، فإننا نتحدث عن أهم شخصية عربية جسدت هذا العلم، وهي شخصية أبو القاسم الزهراوي.

    لقد لخص الطبيب الفرنسي لوسيان لوكليرك مكانة الزهراوي في تطور الطب العالمي بقوله "يعد أبو القاسم في تاريخ الطب أسمى تعبير عن علم الجراحة عند العرب ، وهو أيضا أكثر المراجع ذكرا عند الجراحين في العصر  الوسيط". ثم قال: "وقد احتل الزهراوي في معاهد فرنسا مكانة بين أبقراط وجالينوس فأصبح من أركان هذا الثالوث العلمي" .

    ولوكليرك إنما يؤكد بهذا القول الأخير ما سبق أن ردده ركسيوس  Riccius في القرن الخامس عشر الميلادي. ويعد لوكليرك أحد المتخصصين في دراسة الزهراوي، فهو الذي ترحم إلى الفرنسية مقالته في الجراحة، وكتب عنه في كتابه "تاريخ الطب العربي" الذي أصدره عام 1876م نحو عشرين صفحة ضمنها معلـومات مفيدة عن هـذا الجراح الأندلسي ولا سيما عن الترجمات اللاتينية والعبرية لكتاب التصريف.

إن أول من ترجم المقالة الثلاثين لكتاب التصريف (وهي المتعلقة بالجراحة) هو جيرارد الكريموني الذي ترجمها إلى اللغة اللاتينية وذلك في مدينة طليطلة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. وعن طريق هذه الترجمة اشتهر الزهراوي وأصبح معروفاً من قبل الأطباء الغربيين كأفضل جراحي العصور الوسطى. وتوجد في مكتبة مونبلييه في فرنسا ترجمة عبرية للمقالة الثلاثين مع رسوم للأدوات الجراحية. وفي القرن الرابع عشر نشر الجراح الفرنسي الشهير غي دي شولياك Guy de Chauliac كتابه المسمى "الجراحة الكبرى" باللغة اللاتينية وذلك عام 1363م. وقد استشهد بالزهراوي أكثر من مائتي مرة. وقد بقي هذا الكتاب أهم وأشهر مرجع في الجراحة لعدة قرون.

لقد تم لأول مرة طبع المقالة الثلاثين لكتاب التصريف في فيينا بإيطاليا عام 1471م. وقد تبعها طبعات أخرى في المدينة نفسها. ثم ظهرت حوالي عشرون طبعة أخرى في القرن السادس عشر في مدن أوروبية عديدة مثل طبعة بيترو أو جيلاتا عام 1531م. وفي عام 1778م قام جاهانيس نشانج بنشر النص العربي مع ترجمته باللاتينية في مجلدين في أكسفورد بإنكلترا. وفي عام 1861م قام الطبيب الفرنسي الشهير لوسيان لوكليرك بترجمة المقالة الثلاثين إلى اللغة الفرنسية.

أهم الإنجازات الجراحية للزهراوي:    

    

    وتدل بعض القرائن على أن الزهراوي هو الذي ابتكر معظم ما كان يستعمله من أدوات كما تدل على أن ما كان منها معروفا فقد أدخل عليه تحسينات كثيرة وطوعه للاستعمال الجراحي، وجرب فاعليته بنفسه عمليا، وقد شرح في كثير من الأحيان منفعة الآلات التي صور أشكالها، وبين المادة التي تستعمل في صنعها وطريقة استخدامها واكتفى في بعض الأحيان بذكر اسم الآلة التي يتعين الاستعانة بها دون أية تفاصيل أخرى .

من خلال استعراض الفصول الجراحية التي تحدث فيها الزهراوي في كتابه التصريف لمن عجز عن التأليف يمكن أن نتبين مدى المهارة الجراحية التي تمتع بها اشهر جراحي القرون الوسطى. وهذه المهارة الجراحية لم تتولد إلا نتيجة الممارسة الفعلية والعملية لأكثر هذه العمليات الجراحية والتي وصف كثيراً منها بدقة متناهية حيث لا يمكن لهذا الوصف أن يتأتى فقط من مجرد ترجمة النصوص الطبية للأطباء القدامى كما يدعيه بعض من مؤرخي الطب الغربيين.

ولدى مقارنة ما كتبه الزهراوي عن العلاجات الجراحية لكثير من الأمراض مع ما كتبه غيره من الأطباء العرب كالرازي وابن سينا يمكن أن نتبين التفوق الواضح في مجال الممارسة الجراحية والنصائح العملية التي يوجهها الزهراوي لمن يتصدى لممارسة الجراحة " أو العمل باليد كما كانت تسمى وقتئذ".

لقد نصح الزهراوي باللجوء لربط الأوعية الدموية كوسيلة لإيقاف النـزف وذلك قبل الجراح الفرنسي Ambroise Pare بعدة قرون. وفي مجال الجراحة العينية تحدث  عن كثير من الجراحات العينية التي ما زالت معروفة حتى اليوم، حين تحدّث مثلاً عن شتر الجفن العلوي وشتر الجفن السفلي والظفرة والسبل وجحوظ العين والساد، ووصف العلاج الجراحي لكل هذه الحالات مع وصف الأدوات اللازمة لإجراء مثل هذه العمليات، وهذا أهم ما ميّز الزهراوي عن غيره من الأطباء القدامى.

وفي جراحة الأذن والأنف والحنجرة تحدث عن أورام الفم بما فيها ما يعرف اليوم بالضفيدعة، بالإضافة إلى أورام اللوزتين واللهاة وأورام الأنف وجروح الأنف والشفة، والطريقة التي نصح بها لعلاج جروح الشفة، التي حدث فيها تفرق اتصال شفتي الجرح، لا تختلف عما نجريه اليوم وذلك عندما أوضح ضرورة تسليخ كل شق عن جلده الظاهر ثم جمع الشقين بالخياطة. وقد وصف ما يعرف اليوم بمقصلة اللوزة Tonsilguillotine، كما تحدث عن كيفية استخراج الأجسام الأجنبية الساقطة في الأذن.

في مجال طب الأسنان تكلم الزهراوي على جرد الأسنان وطريقة قلع الأسنان بالإضافة إلى قلع أصول الأضراس وإخراج عظام الفكوك المكسورة، كما وضح كيفية نشر الأضراس النابتة على غيرها.

وفي مجال الجراحة العامة تحدث عن كثير من الحالات الجراحية والمعروفة في الوقت الحاضر، فقد خصص فصلاً للحديث عن مبادئ جراحة الأورام وشقها وفصلاً آخر خصصه للحديث عن الآلات التي يستخدمها الجراح في العمليات الجراحية مبيناً وبالرسم شكل هذه الأدوات وشرح طريقة استعمالها وتحدث عن علاج التثدي عند الذكور وعن فتوق السرة وعن علاج الأورام السرطانية. وفي مجال شق الأورام يشير الزهراوي إلى حقيقة لا زال لها أهميتها في وقتنا الحاضر، وهي أنه في الأورام الحاوية على القيح (أي الخراجات) يجب عدم شقها إلا بد أن تنضج، في حين أنه في الأورام التي تكون قرب المفاصل (والتي هي ما يعرف اليوم بالتهاب العظم والنقي) فيجب أن تشق ودون انتظار، وذلك خشية فساد المفصل.

في مجال الجراحة البولية كان الزهراوي مبدعاً في معالجة الكثير من الحالات الجراحية البولية، فقد وصف طريقة إجراء الختان بدقة متناهية مع ذكر الأخطاء التي يمكن أن تحدث أثناء ذلك. كما تحدث عن طريقة إجراء قثطرة المثانة وحقنها باستخدام الزراقة، وقد تكلم في فصل خاص على حصيات المثانة وطريقة استخراجها وتفتيتها عند الذكور والإناث، كما تحدث عن علاج الخنثى من الذكور والخنثى من الإناث بالإضافة إلى حديثه عن الفتوق المغبنية ودوالي الحبل المنوي وعلاجها الجراحي، كما تحدث الزهراوي في مجال الجراحة النسائية والتوليد فتكلم عن بوليبات عنق الرحم وعن أورام المهبل وعلاج حالة عدم إنثقاب غشاء البكارة (الرتقاء) جراحياً، بالإضافة لذلك فقد تحدث عن كيفية الولادة الطبيعية والولادات غير الطبيعية، كما فصّل في طريقة إجراء تفتيت الجنين واستخراجه خارج الرحم في حال وفاته ضمن الرحم مبيناً صور الآلات والأدوات اللازمة لاستخراج الجنين وخصص فصلاً للحديث عن إخراج المشيمة وعلاج عدم إنثقاب الشرج عند المواليد الجدد.

عندما تحدث الزهراوي عن جروح البطن وإصابة الأمعاء وطريقة إجراء خياطتها، أشار إلى ما يعرف اليوم بوضعية ترندلمبورغ Trendelenburg والتي كثير ما تستخدم اليوم في بعض الإجراءات الطبية.

وهكذا لاحظنا كيف أن الزهراوي تطرق بالحديث عن أكثر الأمراض الجراحية المعروفة في عصره، وركز اهتمامه في آخر المطاف للحديث عن طريقة إخراج السهام من الجسم لما كان لهذه الإصابات من أهمية في ذلك الوقت خاصة أثناء الحروب. وقد تبين من خلال كل ما ذكره الزهراوي عن ذلك مدى البراعة التي تمتع بها هذا الجرح العظيم حتى سمي بحق أحد أساطين الطب العربي وأبا الجراحة عند العرب، بل أشهر جراحي العصور الوسطى في العالم كله.

أيها السيدات والسادة:

أود أن أختتم حديثي هذا، بالتطرق إلى مساهمة الأطباء العرب في مجال علم أخلاقيات الطب Medical Ethics، الذي يعتبره الكثيرون في الغرب بأنه علم حديث، لم يكن من قبل شيئا مذكورا. لقد ذكر الأطباء العرب الأوائل أنه لا بد لمن أراد أن يتعلم الطب أو يزاوله شروطا وخصالا يجب أن يتحقق أو يتحلى بها. فقد أورد الطبيب الدمشقي ابن أبي أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء تلك الشروط، والتي يمكن إيجازها بما يلي:

   أولا- أن يكون تام الخلق، صحيح الأعضاء، حسن الذكاء، جيد الروية، عاقلا، خيّر الطبع.

   ثانيا- أن يكون حسن الملبس، طيب الرائحة، نظيف البدن والثوب، رقيق اللسان لطيف الكلام.

   ثالثا- أن يكون كتوما لأسرار المرضى، لا يبوح بشيء من أمراضهم.

   رابعا- أن يكون مشاركا للعليل مشفقا عليه، غير محب للمال بحيث تكون رغبته في إبراء المرضى أكثر من رغبته فيما يلتمسه من المال، ورغبته في علاج الفقراء أكثر من رغبته في علاج الأغنياء.

    خامسا- أن يكون حريصا على التعلم والتعليم والمبالغة في منفعة الناس، غير منغمس بأمور التلذذ والتنعم.

   سادسا- أن يكون سليم القلب، عفيف النظر، صادق القول، لا يخطر بباله شيء من أمور النساء والأموال التي يشاهدها في منازل أعلّاء القوم، فضلا عن أن يتعرض إلى شيء منها.

   سابعا- أن يكون مأمونا ثقة على الأرواح، ولا يصف دواء قتالا ولا يعمله، ولا دواء يسقط الأجنة، يعالج عدوه بنية صادقة كما يعالج صديقه.

    وقد أضاف بعض الأطباء العرب على تلك الصفات صفات أخرى مثل التلطف بالمريض والرفق به والحلم في استجوابه وتفهيمه لنوعية مرضه على نحو يتماشى مع وضعه الثقافي، ومحاولة تطمينه ورفع معنوياته وكتم الإنذار بالخطر عنه عند إصابته بمرض وخيم، بل يكتفى بإعلامه لذويه. وقد عبر عن ذلك أبلغ تعبير الطبيب العربي الرازي عندما قال: "ينبغي للطبيب أن يوهم المريض الصحة ويرجّيه بها، وإن كان غير واثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس".

 

أيها السيدات والسادة:

   أتمنى أن أكون في هذه العجالة قد تمكنت من تسليط الضوء على بعض من إنجازات أسلافنا من الأطباء العرب ودورهم في بناء الحضارة الإنسانية، وما كان ذلك إلا غيض من فيض، ونذر يسير لما أفاضت به كتبهم ومخطوطاتهم التي ازدحمت بها رفوف المكتبات العلمية في بلاد الشرق والغرب، والتي كما ذكرت آنفا، ما نجهله عنها هو أكثر مما نعلمه.

   أكرر شكري الجزيل للسادة أعضاء اللجنة المنظمة لهذا المؤتمر، وأشكركم جميعا على حسن إصغائكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

++++

 

 

 

  

 



*  طبيب استشاري في الجراحة العظمية

دكتوراه في تاريخ الطب العربي الإسلامي

أستاذ ورئيس قسم تاريخ الطب - جامعة حلب

الأمين العام للجمعية الدولية لتاريخ الطب الإسلامي www.ishim.net

هاتف محمول: 300030 94 963،  فاكس: 2236526 21 963

ص ب: 7581

حلب - سوريا

بريد إلكتروني: a.kaadan@scs-net.org